فصل: تفسير الآية رقم (118)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏113‏)‏‏}‏

استئناف نسخ به التخيير الواقع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 80‏]‏ فإن في ذلك تسوية بين أن يستغفر النبي صلى الله عليه وسلم لهم وبين أن لا يستغفر في انتفاء أهم الغرضين من الاستغفار، وهو حصول الغفران، فبقي للتخيير غَرض آخر وهو حُسن القَول لمن يرى النبي صلى الله عليه وسلم أنهُ أهل للملاطفة لذاته أو لبعض أهله، مثل قصة عبد الله بننِ عبد الله بننِ أبَيْ، فأراد الله نسخ ذلك بعد أن دَرَّج في تلقية على عادة التشريع في غالب الأحوال‏.‏ ولعل الغرض الذي لأجله أبقي التخيير في الاستغفار لهم قد ضعف ما فيه من المصلحة ورجح ما فيه من المفسدة بانقراضضِ من هم أهل لحسن القول وغلبةِ الدهماء من المنافقين الذين يحسبون أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم يَغفر لهم ذنوبهم فيصبحوا فرحين بأنهم ربحوا الصفقتين وأرضوا الفريقين، فنهَى اللّهُ النبي صلى الله عليه وسلم ولعل المسلمين لما سمعوا تخيير النبي في الاستغفار للمشركين ذهبوا يستغفرون لأهليهم وأصحابهم من المشركين طمعاً في إيصال النفع إليهم في الآخرة فأصبح ذلك ذريعة إلى اعتقاد مساواة المشركين للمؤمنين في المغفرة فينتفي التفاضل الباعث على الرغبة في الإيمان، فنهى الله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معاً عن الاستغفار للمشركين بعد أن رخصه للنبيء صلى الله عليه وسلم خاصة في قوله‏:‏ ‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 80‏]‏‏.‏

وروى الترمذي والنسائي عن علي قال‏:‏ سمعت رجلاً يستغفر لأبويه المشركين قال‏:‏ فقلت له‏:‏ أتستغفر لأبويك وهما مشركان‏؟‏ فقال‏:‏ أليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم لأواه حليم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏

وقال ابن العربي في «العارضة»‏:‏ هو أضعف ما رُوي في هذا الباب‏.‏ وأما ما روي في أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، أو أنها نزلت في سؤاله ربه أن يستغفر لأمه آمنة حين زار قبرها بالأبواء‏.‏ فهما خبران واهيان لأن هذه السورة نزلت بعد ذلك بزمن طويل‏.‏

وجاءت صيغة النهي بطريق نفي الكون مع لام الجحود مبالغة في التنزه عن هذا الاستغفار، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق‏}‏ في آخر سورة العقود ‏(‏116‏)‏‏.‏

ويدخل في المشركين المنافقون الذين علم النبي نفاقهم والذين علم المسلمون نفاقهم بتحقق الصفات التي أعلنت عليهم في هذه السورة وغيرها‏.‏

وزيادة ولو كانوا أولي قربى‏}‏ للمبالغة في استقصاء أقرب الأحوال إلى المعذرة، كما هو مفاد ‏(‏لو‏)‏ الوصلية، أي فَأوْلى إن لم يكونوا أولي قربى‏.‏ وهذه المبالغة لقطع المعذرة عن المخالف، وتمهيد لتعليم من اغتر بما حكاه القرآن من استغفار إبراهيم لأبيه في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واغفر لأبي إنه كان من الضالين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 86‏]‏‏.‏ ولذلك عقَّبه بقوله‏:‏ ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏ الخ‏.‏

وقد تقدم الكلام على ‏(‏لو‏)‏ الاتصالية عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو افتدى به‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏91‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ‏(‏114‏)‏‏}‏

معطوفة على جملة ‏{‏ما كان للنبيء‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ الخ‏.‏ وهي من تمام الآية باعتبار ما فيها من قوله‏:‏ ‏{‏ولو كانوا أولي قربى‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ إذ كان شأن ما لا ينبغي لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أن لا ينبغي لغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام لأن معظم أحكامهم متحدة إلا ما خص به نبينا من زيادة الفضل‏.‏ وهذه من مسألة ‏(‏أن شرع من قبلنا شرع لنا‏)‏ فلا جرم ما كان ما ورد من استغفار إبراهيم قد يثير تعارضاً بين الآيتين، فلذلك تصدّى القرآن للجواب عنه‏.‏ وقد تقدم آنفاً ما روي أن هذه سبب نزول الآية‏.‏

والموعدة‏:‏ اسم للوعد‏.‏ والوعد صدر من أبي إبراهيم لا محالة، كما يدل عليه الاعتذار لإبراهيم لأنه لو كان إبراهيم هو الذي وعد أباه بالاستغفار وكان استغفاره له للوفاء بوعده لكان يتجه من السؤال على الوعد بذلك وعلى الوفاء به ما اتجه على وقوع الاستغفار له‏.‏ فالتفسير الصحيح أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم بالإيمان، فكان بمنزلة المؤلفة قلوبهم بالاستغفار له لأنه ظنه متردداً في عبادة الأصنام لما قال له‏:‏ ‏{‏واهجرني ملياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 46‏]‏ فسأل الله له المغفرة لعله يرفض عبادة الأصنام كما يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه‏}‏‏.‏ وطريق تبين أنه عدو لله إما الوحي بأن نهاه الله عن الاستغفار له، وإما بعد أن مات على الشرك‏.‏

والتبرؤ‏:‏ تفعل من برئ من كذا إذا تنزه عنه، فالتبرؤ مبالغة في البراءة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم لأواه حليم‏}‏ استئنافٌ ثَناءٌ على إبراهيم‏.‏ و‏{‏أواه‏}‏ فُسّر بمعان ترجع إلى الشفقة إما على النفس فتفيد الضراعة إلى الله والاستغفار، وإما على الناس فتفيد الرحمة بهم والدعاء لهم‏.‏

ولفظ ‏{‏أواه‏}‏ مثالُ مبالغة‏:‏ الذي يكثر قول أوّهْ بلغاته الثلاثَ عشرة التي عدها في «القاموس»، وأشهَرُها أوَّهْ بفتح الهمزة وواو مفتوحة مشددة وهاء ساكنة‏.‏ قال المرادي في «شرح التسهيل»‏:‏ وهذه أشهر لغاتها‏.‏ وهي اسم فعل مضارع بمعنى أتوجع لإنشاء التوجع، لكن الوصف ب ‏{‏أواه‏}‏ كناية عن الرأفة ورقة القلب والتضرع حين يُوصف به من ليس به وَجع‏.‏ والفعل المشتق منه ‏(‏أواه‏)‏ حقهُ أن يكون ثلاثياً لأن أمثلة المبالغة تصاغ من الثلاثي‏.‏ وقد اختلف في استعمال فعللٍ ثلاثي له، فأثبته قطرب وأنكره عليه غيره من النحاة‏.‏

وإتباع ‏(‏لأواه‏)‏ بوصف ‏(‏حليم‏)‏ هنا وفي آيات كثيرة قرينة على الكناية وإيذان بمثار التأوه عنده‏.‏

والحليم‏:‏ صاحب الحلم‏.‏ والحلم بكسر الحاء‏:‏ صفة في النفس وهي رجاحة العقل وثباتة ورصانة وتباعد عن العدوان‏.‏ فهو صفة تقتضي هذه الأمور، ويجمعها عدم القسوة‏.‏ ولا تنافي الانتصار للحق لكن بدون تجاوز للقدر المشروع في الشرائع أو عند ذوي العقول‏.‏

قال‏:‏

حليم إذا ما الحلم زين أهله *** مع الحلم في عين العدو مهيب

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏ لاعتذار عن النبي وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام في استغفارهما لمن استغفرا لهما من أولي القربى كأبي طالب وآزر ومن الأمة كعبد الله بن أبي بن سلول بأن فعلهما ذلك ما كان إلا رَجاءً منهما هُدى من استغفرا له، وإعانة له إن كان الله يريده، فلما تبين لهما الثابتُ على كفره إما بموته عليه أو باليأس من إيمانه تركا الاستغفار له، وذلك كله بعد أن أبلغا الرسالة ونصحا لمن استغفرا له‏.‏ ولأجل هذا المعنى مهد الله لهما الاعتذار من قبل بقوله‏:‏ ‏{‏من بعدِ ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏ وقولِه‏:‏ ‏{‏فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏‏.‏ وفي ذلك معذرة للمؤمنين المستغفرين للمشركين من أولي قرابتهم قبل هذا النهي‏.‏ فهذا من باب ‏{‏عفا الله عنك لم أذنت لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وفيه تسجيل أيضاً لكون أولئك المشركين أحرياء بقطع الاستغفار لهم لأن أنبياء الله ما قطعوه عنهم إلا بعد أن أمهلوهم ووعدوهم وبينوا لهم وأعانوهم بالدعاء لهم فما زادهم ذلك إلا طغياناً‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً‏}‏ أن ليس من شأنه وعادة جلاله أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم بإرسال الرسل إليهم وإرشادهم إلى الحق حتى يبين لهم الأشياء التي يريد منهم أن يتقوها، أي يتجنبوها‏.‏ فهنالك يُبلغ رسله أن أولئك من أهل الضلال حتى يتركوا طلب المغفرة لهم كما قال لنوح عليه السَّلام‏:‏ ‏{‏فلا تسألننِ ما ليس لك به علم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 46‏]‏ ولا كان من شأنه تعالى أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم للإيمان واهتدوا إليه لعمل عملوه حتى يبين لهم أنه لا يرضى بذلك العمل‏.‏

ثم إن لفظ الآية صالح لإفادة معنى أن الله لا يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم عليه السلام ولا المسلمين باستغفارهم لمن استغفروا له من قبل ورود النهي وظهور دليل اليأس من المغفرة، لأن الله لا يؤاخذ قوماً هداهم إلى الحق فيكتبهم ضُلالاً بالمعاصي حتى يبين لهم أن ما عملوه معصية، فموقع هذه الآية بعد جميع الكلام المتقدم صيّرها كلاماً جامعاً تذييلاً‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله بكل شيء عليم‏}‏ تذييل مناسب للجملة السابقة، ووقوع ‏{‏إن‏}‏ في أولها يفيد معنى التفريع‏.‏ والتعليل مضمون للجملة السابقة، وهو أن الله لا يضل قوماً بعد أن هداهم حتى يبين لهم الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏116‏)‏‏}‏

تذييل ثان في قوة التأكيد لقوله‏:‏ ‏{‏إن الله بكل شيء عليم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 115‏]‏، ولذلك فُصل بدون عطف لأن ثبوت ملك السماوات والأرض لله تعالى يقتضي أن يكون عليماً بكل شيء لأن تخلف العلم عن التعلق ببعض المتملكات يفضى إلى إضاعة شؤونها‏.‏

فافتتاح الجملة ب ‏(‏إن‏)‏ مع عدم الشك في مضمون الخبر يعين أن ‏(‏إن‏)‏ لمجرد الاهتمام فتكون مفيدة معنى التفريع بالفاء والتعليل‏.‏

ومعنى الملك‏:‏ التصرف والتدبير‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَلِك يوم الدين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وزيادة جملتي‏:‏ ‏{‏يحيي ويميت‏}‏ لتصوير معنى الملك في أتم مظاهره المحسوسة للناس المسلم بينهم أن ذلك من تصرف الله تعالى لا يستطيع أحد دفع ذلك ولا تأخيره‏.‏

وعطف جملة‏:‏ ‏{‏وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير‏}‏ لتأييد المسلمين بأنهم منصورون في سائر الأحوال لأن الله وليهم فهو نصير لهم، ولإعْلامهم بأنهم لا يخشون الكفار لأن الكافرين لا مولى لهم لأن الله غاضب عليهم فهو لا ينصرهم‏.‏ وذلك مناسب لغرض الكلام المتعلق باستغفارهم للمشركين بأنه لا يفيدهم‏.‏

وتقدم الكلام على الولي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أغير الله أتخذ ولياً‏}‏ في أول سورة الأنعام ‏(‏14‏)‏‏.‏

والنصير‏:‏ الناصر‏.‏ وتقدم معنى النصر عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏48‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏117‏)‏‏}‏

انتقال من التحريض على الجهاد والتحذير من التقاعس والتوبيخ على التخلف، وما طرأ على ذلك التحريض من بيان أحوال الناس تُجاه ذلك التحريض وما عقبه من أعمال المنافقين والضعفاء والجبناء إلى بيان فضيلة الذين انتدبوا للغزو واقتحموا شدائده، فالجملة استئناف ابتدائي‏.‏

وافتتاحها بحرف التحقيق تأكيد لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالاً ماضية‏.‏

ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضى الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك‏.‏

وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغُزاة للتنويه بشأن هذه التوبة وإتيانها على جميع الذنوب إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر‏.‏

ومعنى ‏{‏تاب‏}‏ عليه‏:‏ غفر له، أي لم يؤاخذه بالذنوب سواء كان مذنباً أم لم يكنه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏علم أنْ لن تحصوه فتاب عليكم‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ أي فغفر لكم وتجاوز عن تقصيركم وليس هنالك ذنب ولا توبة‏.‏ فمعنى التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه أن الله لا يؤاخذهم بما قد يحسبون أنه يسبب مؤاخذة كقول النبي صلى الله عليه وسلم «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»

وأما توبة الله على الثلاثة الذين خُلفوا فهي استجابته لتوبتهم من ذنبهم‏.‏

والمهاجرون والأنصار‏:‏ هم مجموع أهل المدينة، وكان جيش العسرة منهم ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خُصوا بالثناء لأنهم لم يترددوا ولم يتثاقلوا ولا شحوا بأموالهم، فكانوا إسوة لمن اتَّسى بهم من غيرهم من القبائل‏.‏

ووصف المهاجرون والأنصار ب ‏{‏الذين اتبعوه‏}‏ للإيماء إلى أن لصلة الموصول تسبباً في هذه المغفرة‏.‏

ومعنى ‏{‏اتبعوه‏}‏ أطاعوه ولم يخالفوا عليه، فالاتباع مجازي‏.‏

والساعة‏:‏ الحصة من الزمن‏.‏

والعسرة‏:‏ اسم العسر، زيدت فيه التاء للمبالغة وهي الشدة‏.‏ وساعة العسرة هي زمن استنفار النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى غزوة تبوك‏.‏ فهو الذي تقدمت الإشارة إليه بقوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏ فالذين انتدبوا وتأهبوا وخرجوا هم الذين اتبعوه، فأما ما بعد الخروج إلى الغزو فذلك ليس هو الاتباع ولكنه الجهاد‏.‏ ويدل لذلك قوله‏:‏ ‏{‏من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم‏}‏ أي من المهاجرين والأنصار، فإنه متعلق ب ‏{‏اتبعوه‏}‏ أي اتبعوا أمره بعد أن خامر فريقاً منهم خاطر التثاقل والقعود والمعصية بحيث يشبهون المنافقين، فإن ذلك لا يتصور وقوعه بعد الخروج، وهذا الزيغ لم يقع ولكنه قارب الوقوع‏.‏

و ‏{‏كاد‏}‏ من أفعال المقاربة تعمل في اسمين عَملَ كانَ، واسمُها هنا ضمير شأن مقدر، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن، وإنما جُعل اسمها هنا ضمير شأن لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏تَزيغ‏}‏ بالمثناة الفوقية‏.‏ وقرأه حمزة، وحفص عن عاصم، وخلف بالمثناة التحتية‏.‏ وهما وجهان في الفعل المسند لجمع تكسير ظاهر‏.‏ والزيغ‏:‏ الميل عن الطريق المقصود‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏8‏)‏‏.‏

وجملة؛ ثم تاب عليهم‏}‏ عطف على جملة ‏{‏لقد تاب الله‏}‏ أي تاب على غير هذا الفريق مطلقاً، وتاب على هذا الفريق بعد ما كادت قلوبهم تزيغ، فتكون ‏{‏ثم‏}‏ على أصلها من المهلة‏.‏ وذلك كقوله في نظير هذه الآية ‏{‏ثم تاب عليهم ليتوبوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 118‏]‏‏.‏ والمعنى تاب عليهم فأهموا به وخرجوا فلقوا المشقة والعسر، فالضمير في قوله ‏{‏عليهم‏}‏ لل ‏{‏فريق‏}‏‏.‏ وجوز كثير من المفسرين أن تكون ‏{‏ثم‏}‏ للترتيب في الذكر، والجملة بعدها توكيداً لجملة ‏{‏تاب الله‏}‏، فالضمير للمهاجرين والأنصار كلهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنه بهم رءوف رحيم‏}‏ تعليل لما قبلها على التفسيرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏118‏)‏‏}‏

‏{‏وعلى الثلاثة‏}‏ معطوف ‏{‏على النبي‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 117‏]‏ بإعادة حرف الجر لبُعد المعطوف عليه، أي وتاب على الثلاثة الذين خلفوا‏.‏ وهؤلاء فريق له حالة خاصة من بين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك غير الذين ذكروا في قوله‏:‏ ‏{‏فرح المخلفون بمقعدهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 81‏]‏ الآية، والذين ذكروا في قوله‏:‏ ‏{‏وجاء المعذرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 90‏]‏ الآية‏.‏

والتعريف في ‏{‏الثلاثة‏}‏ تعريف العهد فإنهم كانوا معروفين بين الناس، وهم‏:‏ كَعب بن مالك من بني سَلِمَة، ومُرارة بن الربيع العَمْري من بني عَمرو بن عَوْف، وهلال بن أمية الواقفي من بني واقف، كلهم من الأنصار تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر‏.‏ ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك سألهم عن تخلفهم فلم يكذبوه بالعذر ولكنهم اعترفوا بذنبهم وحزنوا‏.‏ ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامهم، وأمرهم بأن يعتزلوا نساءهم‏.‏ ثم عفا الله عنهم بعد خمسين ليلة‏.‏ وحديث كعب بن مالك في قصته هذه مع الآخرين في «صحيح البخاري» و«صحيح مسلم» طويل أغر وقد ذكره البغوي في «تفسيره»‏.‏

و ‏{‏خلفوا‏}‏ بتشديد اللام مضاعف خَلَف المخفف الذي هو فعل قاصر، معناه أنه وراء غيره، مشتق من الخلف بسكون اللام وهو الوراء‏.‏ والمقصود بَقي وراء غيره‏.‏ يقال‏:‏ خَلَف عن أصحابه إذا تخلف عنهم في المشيء يَخْلُف بضم اللام في المضارع، فمعنى ‏{‏خُلِّفوا‏}‏ خَلّفهم مُخَلِّف، أي تركهم وراءه وهم لم يخلفهم أحد وإنما تخلفوا بفعل أنفسهم‏.‏ فيجوز أن يكون ‏{‏خلفوا‏}‏ بمعنى خلَّفوا أنفسهم على طريقة التجريد‏.‏ ويجوز أن يكون تخليفهم تخليفاً مجازياً استعير لتأخير البت في شأنهم، أي الذين خُلفوا عن القضاء في شأنهم فلم يعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا آيسهم من التوبة كما آيس المنافقين‏.‏ فالتخليف هنا بمعنى الإرجاء‏.‏ وبهذا التفسير فَسره كعب بن مالك في حديثه المروي في «الصحيح» فقال‏:‏ وليس الذي ذكر الله مما خُلفنا عن الغزو وإنما تخليفُه إياناً وإرجاؤه أمرنا عَمَّن حَلَف له واعتذر إليه فقُبل منه‏.‏ اه‏.‏

يعني ليس المعنى أنهم خَلَّفوا أنفسهم عن الغزو وإنما المعنى خلَّفهم أحد، أي جعلهم خَلْفاً وهو تخليف مجازي، أي لم يُقض فيهم‏.‏ وفاعل التخليف يجوز أن يراد به النبي صلى الله عليه وسلم أو الله تعالى‏.‏

وبناء فعل ‏{‏خلفوا‏}‏ للنائب على ظاهره، فليس المراد أنهم خلفوا أنفسهم‏.‏

وتعليق التخليف بضمير ‏{‏الثلاثة‏}‏ من باب تعليق الحكم باسم الذات‏.‏ والمراد‏:‏ تعليقه بحاللٍ من أحوالها يعلم من السياق، مثلُ ‏{‏حُرمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وهذا الذي فَسَّر كعب به هو المناسب للغاية بقوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحُبت‏}‏ لأن تخيل ضيق الأرض عليهم وضيققِ أنفسهم هو غاية لإرجاء أمرهم انتهى عندها التخليف، وليس غايةً لتخلفهم عن الغزو، لأن تخلفهم لا انتهاء له‏.‏

وضيق الأرض‏:‏ استعارة، أي حتى كانت الأرض كالضَّيقة عليهم، أي عندهم‏.‏ وذلك التشبيه كناية عن غمهم وتنكر المسلمين لهم‏.‏ فالمعنى أنهم تخيلوا الأرض في أعينهم كالضيقة كما قال الطرماح‏:‏

مَلأتُ عليه الأرض حتى كأنها *** من الضيق في عينيه كِفَّة حَابل

وقوله‏:‏ ‏{‏بما رحبت‏}‏ حال من ‏{‏الأرض‏}‏‏.‏ والباء للملابسة، أي الأرض الملابسة لسعتها المعروفة‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ مصدرية‏.‏

‏{‏ورحُبت‏}‏ اتسعت، أي تخيلوا الأرض ضيقة وهي الأرض الموصوفة بسعتها المعروفة‏.‏

وضيق أنفسهم‏:‏ استعارة للغم والحزن لأن الغم يكون في النفس بمنزلة الضيق‏.‏ ولذلك يقال للمحزون‏:‏ ضاق صدره، وللمسرور‏:‏ شُرح صدره‏.‏

والظن مستعمل في اليقين والجَزممِ، وهو من معانيه الحقيقية‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏46‏)‏ وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنّا لنظنك من الكاذبين‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏66‏)‏، أي وأيقنوا أن أمر التوبة عليهم موكول إلى الله دون غيره بما يُوحي به إلى رسوله، أي التجأوا إلى الله دون غيره‏.‏ وهذا كناية عن أنهم تابوا إلى الله وانتظروا عفوه‏.‏

وقوله‏:‏ ثم تاب عليهم‏}‏ عطف على ضاقت عليهم الأرض وما بعده، أي حتى وقع ذلك كله ثم تاب عليهم بعده‏.‏

و ‏{‏ثُم‏}‏ هنا للمهلة والتراخي الزمَني وليست للتراخي الرتبي، لأن ما بعدها ليس أرفع درجة مما قبلها بقرينة السياق، وهو مغن عن جواب ‏(‏إذا‏)‏ لأنه يفيد معناه، فهو باعتبار العطف تنهية للغاية، وباعتبار المعطوف دال على الجواب‏.‏

واللام في ‏{‏ليتوبوا‏}‏ للتعليل، أي تاب عليهم لأجل أن يكفوا عن المخالفة ويتنزهوا عن الذنب، أي ليدوموا على التوبة، فالفعل مستعمل في معنى الدوام على التلبس بالمصدر لا على إحداث المصدر‏.‏

وليس المراد ليذنبوا فيتوبوا، إذ لا يناسب مقام التنويه بتوبته عليهم‏.‏ وجملة ‏{‏إن الله هو التواب الرحيم‏}‏ تذييل مفيد للامتنان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

الظاهر أن هذه الآية خاتمة للآي السابقة وليست فاتحة غرض جديد‏.‏ ففي «صحيح البخاري» من حديث كعب بن مالك حين تخلف عن غزوة تبوك أنه قال‏:‏ «فوالله ما أعلم أحداً‏.‏‏.‏‏.‏ أبْلاه الله في صدق الحديث أحسنَ مما أبْلاني ما تعمدتُ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذباً وأنزل الله على رسوله ‏{‏لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار إلى قوله ‏{‏وكونوا مع الصادقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 117 119‏]‏ اه‏.‏ فهذه الآية بمنزلة التذييل للقصة فإن القصة مشتملة على ذكر قوم اتقوا الله فصدقوا في إيمانهم وجهادهم فرضي الله عنهم، وذِكر قوم كذبوا في ذلك واختلقوا المعاذير وحلفوا كذباً فغضب الله عليهم، وقوم تخلفوا عن الجهاد وصدقوا في الاعتراف بعدم العذر فتاب الله عليهم، فلما كان سبب فوز الفائزين في هذه الأحوال كلها هو الصدق لا جرم أمر الله المؤمنين بتقواه وبأن يكونوا في زمرة الصادقين مثل أولئك الصادقين الذين تضمنتهم القصة‏.‏

والأمر ب ‏{‏كونوا مع الصادقين‏}‏ أبلغ في التخلق بالصدق من نحو‏:‏ اصدقوا‏.‏ ونظيره ‏{‏واركعوا مع الراكعين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وكذلك جَعله بعد ‏(‏من‏)‏ التبعيضية وقد تقدم ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أبى واستكبر وكان من الكافرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 43‏]‏ ومنه قوله‏:‏ ‏{‏قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي لإيجاب الغزو على أهل المدينة ومن حولهم من أهل باديتها الحافّين بالمدينة إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو‏.‏ فهذا وجوب عيني على هؤلاء شرفهم الله بأن جعلهم جند النبي صلى الله عليه وسلم وحَرَس ذاته‏.‏

والذين هم حول المدينة من الأعراب هم‏:‏ مُزينة، وأشجع، وغِفار، وجُهينة، وأسلم‏.‏

وصيغة ‏{‏ما كان لأهل المدينة‏}‏ خبر مستعمل في إنشاء الأمر على طريق المبالغة، إذ جعل التخلف ليس مما ثبت لهم، فهم برآء منه فيثبت لهم ضده وهو الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا‏.‏

فيه ثناء على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب لما قاموا به من غزو تبوك، فهو يقتضي تحريضهم على ذلك كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ‏}‏ الخ‏.‏

وفيه تعريض بالذين تخلفوا من أهل المدينة ومن الأعراب‏.‏ وذلك يدل على إيجاب النفير عليهم إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو‏.‏ وقال قتادة وجماعة‏:‏ هذا الحكم خاص بخروج النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الخلفاء والأمراء فهو مُحكم غير منسوخ‏.‏ وبذلك جزم ابن بَطال من المالكية‏.‏ قال زيد بن أسلم وجابر بن زيد‏:‏ كان هذا حكماً عاماً في قلة الإسلام واحتياجه إلى كثرة الغزاة ثم نسخ لما قوي الإسلام بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏ فصار وجوب الجهاد على الكفاية‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ هذا حكم من استنفرهم الإمام بالتعيين لأنه لو جاز لهؤلاء التخلف لتعطل الخُروج‏.‏ واختاره فخر الدين‏.‏

والتخلف‏:‏ البقاء في المكان بعدَ الغير ممن كان معه فيه، وقد تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 81‏]‏‏.‏

والرغبة تُعدّى بحرف ‏(‏في‏)‏ فتفيد معنى مودة تحصيل الشيء والحرص فيه، وتُعدى بحرف ‏(‏عن‏)‏ فتفيد معنى المجافاة للشيء، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرغب عن ملة إبراهيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 130‏]‏ وهي هنا معداة ب ‏(‏عن‏)‏‏.‏ أريد برغبتهم عن نفسه محبتهم أنفسهم وحرصهم على سلامتها دون الحرص على سلامة نفس الرسول، فكأنهم رغبوا عن نفسه إذ لم يخرجوا معه مُلاَبسين لأنفسهم، أي محتفظين بها لأنهم بمقدار من يتخلف منهم يزداد تعرض نفس الرسول من التلف قرباً، فتخلف واحد منهم عن الخروج معه عون على تقريب نفس الرسول عليه الصلاة والسلام من التلف فلذلك استعير لهذا التخلف لفظ الرغبة عنه‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بأنفسهم‏}‏ للملابسة وهي في موضع الحال‏.‏ نزل الضن بالأنفس والحذر من هلاكها بالتلبس بها في شدة التمكن فاستعمل له حرف باء الملابسة‏.‏ وهذه ملابسة خاصة وإن كانت النفوس في كل حال متلبساً بها‏.‏ وهذا تركيب بديع الإيجاز بالغ الإعجاز‏.‏

قال في «الكشاف»‏:‏ «أمروا أن يُلَقُّوا أنفسَهم من الشدائد ما تلقاه نفسه علماً بأنها أعَز نفس عند الله وأكرمها عليه فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له» اه‏.‏

وهذا نهي بليغ وتوبيخ لهم وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية‏.‏

والإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى نفي كون التخلف عن الرسول ثابتاً لهم، أي أن ما ينالونه من فضل وثواب وأجر عظيم يقضي بأنه ما يكون لهم أن يتخلفوا عن رسول الله‏.‏

والباء في ‏{‏بأنهم‏}‏ للسببية‏.‏ والظَّمأ‏:‏ العطش، والنصَب‏:‏ التعب، والمخمصة‏:‏ الجوع‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فمن اضطر في مخمصة‏}‏ في سورة العقود ‏(‏3‏)‏‏.‏

والوطء‏:‏ الدوس بالأرجل‏.‏ والمَوْطئ‏:‏ مصدر ميمي للوطء‏.‏ والوطء في سبيل الله هو الدوس بحوافر الخيل وأخفاف الإبل وأرجل الغزاة في أرض العدو، فإنه الذي يغيظ العدو ويغضبه لأنه يأنف من وطء أرضه بالجيش، ويجوز أن يكون الوطء هنا مستعاراً لإذلال العدو وغلبته وإبادته، كقول الحارث بن وَعْلة الذُهْلي من شعراء الحماسة‏:‏

ووطئتَنَا وَطئاً على حنق *** وَطْء المُقَيّد نابِتَ الهَرْم

وهو أوفق بإسناد الوطء إليهم‏.‏

والنيل‏:‏ مصدر ‏(‏ينالون‏)‏‏.‏ يقال‏:‏ نال منه إذا أصابه برزء‏.‏ وبذلك لا يقدَّر له مفعول‏.‏ وحرف ‏(‏من‏)‏ مستعمل في التبعيض المجازي المتحقق في الرزية‏.‏ ورزءُ العدو يكون من ذوات الأعداء بالأسر، ويكون من متاعهم وأموالهم بالسبي والغنم‏.‏

والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال‏.‏ فجملة‏:‏ كتب لهم به عمل صالح‏}‏ في موضع الحال، وأغنى حرف الاستثناء عن اقترانها بقد‏.‏ والضمير في ‏(‏به‏)‏ عائد على ‏(‏نصَب‏)‏ وما عطف عليه إما بتأويل المذكور وإما لأن إعادة حرف النفي جعلت كل معطوف كالمستقل بالذكر، فأعيد الضمير على كل واحد على البدل كما يعاد الضمير مفرداً على المتعاطفات ب ‏(‏أو‏)‏ باعتبار أن ذلك المتعدد لا يكون في نفس الأمر إلا واحد منه‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏كتب لهم به عمل صالح‏}‏ أن يكتب لهم بكل شيء من أنواع تلك الأعمال عمل صالح، أي جعَل الله كل عمل من تلك الأعمال عملاً صالحاً وإن لم يقصِد به عاملوه تقرباً إلى الله فإن تلك الأعمال تصدر عن أصحابها وهم ذاهلون في غالب الأزمان أو جميعها عن الغاية منها فليست لهم نيات بالتقرب بها إلى الله ولكن الله تعالى بفضله جعلها لهم قربات باعتبار شرف الغاية منها‏.‏ وذلك بأن جعل لهم عليها ثواباً كما جعل للأعمال المقصود بها القربة، كما ورد أن نوم الصائم عبادة‏.‏

وقد دل على هذا المعنى التذييل الذي أفاد التعليل بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يضيع أجر المحسنين‏}‏‏.‏ ودل هذا التذييل على أنهم كانوا بتلك الأعمال محسنين فدخلوا في عموم قضية ‏{‏إن الله لا يضيع أجر المحسنين‏}‏ بوجه الإيجاز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏121‏]‏

‏{‏وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏لا يصيبهم ظمأ‏}‏، وهو انتقال من عداد الكُلف التي تصدر عنهم بلا قصد في سبيل الله إلى بعض الكلف التي لا تخلو عن استشعار من تحِل بهم بأنهم لقُوها في سبيل الله، فالنفقة في سبيل الله لا تكون إلا عن قصد يتذكر به المنفق أنه يسعى إلى ما هو وسيلة لِنصر الدين، والنفقةُ الكبيرة أدخل في القصد، فلذلك نبه عليها وعلى النفقة الصغيرة ليعلم بذكر الكبيرة حكم النفقة الصغيرة لأن العلة في الكبيرة أظهر وكان هذا الإطناب في عد مناقبهم في الغزو لتصوير ما بذلوه في سبيل الله‏.‏

وقطع الوادي‏:‏ هو اجتيازه‏.‏ وحقيقة القطع‏:‏ تفريق أجزاء الجسم‏.‏ وأطلق على الاجْتياز على وجه الاستعارة‏.‏

والوادي‏:‏ المنفرج يكون بين جبال أو إكام فيكون منفذاً لسيول المياه، ولذلك اشتق من ودى بمعنى سال‏.‏ وقطع الوادي أثناءَ السير من شأنه أن يتذكر السائرون بسببه أنهم سائرون إلى غرض مَّا لأنه يجدد حالة في السير لم تكن من قبل‏.‏ ومن أجل ذلك نُدب الحجيجُ إلى تجديد التلبية عندما يصعدون شرفاً أو ينزلون وادياً أو يلاقون رفاقاً‏.‏

والضمير في ‏{‏كُتب‏}‏ عائد إلى ‏{‏عمل صالح‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏‏.‏ ولام التعليل متعلقة ب ‏(‏كتب‏)‏، أي كتب الله لهم صالحاً ليجزيهم عن أحسن أعمالهم‏.‏

ولما كان هذا جزاء عن عملهم المذكور علم أن عملهم هذا من أحسن أعمالهم‏.‏

وانتصب ‏{‏أحسنَ‏}‏ على نزع الخافض، أي عن أحسننِ ما كانوا يعملون أو بأحسن ما كانوا يعملون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدَهم من فضله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 38‏]‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏ليجزيك أجر ما سقيت لنا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 25‏]‏ فالظاهر أنه من غير هذا القبيل وأن ‏(‏أجر‏)‏ مفعول مطلق‏.‏

وفي ذكر ‏{‏كانوا‏}‏ والإتيان بخبرها مضارعاً إفادةُ أن مثل هذا العمل كان ديدنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

كان غالب ما تقدم من هذه السورة تحريضاً على الجهاد وتنديداً على المقصرين في شأنه، وانتهى الكلام قبل هذا بتبرئة أهل المدينة والذين حولهم من التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا جرم كانت قوة الكلام مؤذنة بوجوب تمحض المسلمين للغزو‏.‏ وإذ قد كان من مقاصد الإسلام بث علومه وآدابه بين الأمة وتكوين جماعات قائمة بعلم الدين وتثقيف أذهان المسلمين كي تصلح سياسة الأمة على ما قصده الدين منها، من أجل ذلك عُقب التحريض على الجهاد بما يبين أن ليس من المصلحة تمحض المسلمين كلهم لأن يكونوا غزاة أو جُنداً، وأن ليس حظ القائم بواجب التعليم دون حظ الغازي في سبيل الله من حيث إن كليهما يقوم بعمل لتأييد الدين، فهذا يؤيده بتوسع سلطانه وتكثير أتباعه، والآخَرُ يؤيده بتثبيت ذلك السلطان وإعداده لأن يصدر عنه ما يضمن انتظام أمره وطول دوامه، فإن اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والسَّاسَة وأولي الرأي المهْتمين بتدبير ذلك السلطان، ولذلك لم يثبت ملك اللمتونيين في الأندلس إلا قليلاً حتى تقلص، ولم تثبت دولة التتار إلا بعد أن امتزجوا بعلماء المُدن التي فتحوها ووكَلوا أمر الدولة إليهم‏.‏

وإذ قد كانت الآية السابقة قد حرضت فريقاً من المسلمين على الالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو لمصلحة نشر الإسلام ناسب أن يُذكر عقبها نَفْر فريق من المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفقه في الدين ليكونوا مرشدين لأقوامهم الذين دخلوا في الإسلام‏.‏

ومن محاسن هذا البيان أن قابل صيغة التحريض على الغزو بمثلها في التحريض على العلم إذْ افتتحت صيغة تحريض الغزو بلام الجحود في قوله‏:‏ ‏{‏ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏ الآية وافتتحت صيغة التحريض على العلم والتفقه بمثل ذلك إذ يقول‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏‏.‏

وهذه الجملة معطوفة على مجموع الكلام الذي قبلها فهي جملة ابتدائية مستأنفة لغرض جديد ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏مالكم إذا قيل لكم انفروا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏ ثم عن قوله‏:‏ ‏{‏ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏ الخ‏.‏ ومعنى ‏{‏أن يتخلفوا‏}‏ هو أن لا ينفروا، فناسب أن يذكر بعده ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏‏.‏

والمراد بالنفير في قوله‏:‏ ‏{‏لينفروا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة‏}‏ الخروج إلى الغزو المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏ أي وما كان المؤمنون لينفروا ذلك النفرَ كلُّهم‏.‏

فضمير ‏{‏ليتفقهوا في الدين‏}‏ يجوز أن يعود على قوله‏:‏ ‏{‏المؤمنون‏}‏، أي ليتفقه المؤمنون‏.‏

والمراد ليتفقه منهم طائفة وهي الطائفة التي لم تنفر، كما اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة‏}‏، فهو عام مراد به الخصوص‏.‏

ويجوز أن يعود الضمير إلى مفهوممٍ من الكلام من قوله‏:‏ ‏{‏فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة‏}‏ لأن مفهومه وبقيتْ طائفةً ليتفقهوا في الدين، فأعيد الضمير على ‏(‏طائفة‏)‏ بصيغة الجمع نظراً إلى معنى طائفة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ على تأويل اقتتل جمعهم‏.‏

ويجوز أن يكون المراد من النفرْ في قوله‏:‏ ‏{‏لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة‏}‏ نفْراً آخر غير النفر في سبيل الله، وهو النفر للتفقه في الدين، وتكون إعادةُ فعل ‏(‏ينفروا‏)‏ و‏(‏نَفَر‏)‏ من الاستخدام بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏ليتفقهوا في الدين‏}‏ فيكون الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏ليتفقهوا‏}‏ عائداً إلى ‏{‏طائفة‏}‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏ تمهيداً لقوله‏:‏ ‏{‏فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة‏}‏‏.‏

وقد نقل عن أيمة المفسرين وأسباب النزول أقوال تجري على الاحتمالين‏.‏ والاعتماد في مراجع الضمائر على قرائن الكلام على عادة العرب في الإيجاز والاعتماد على فطنة السامع فإنهم أمة فطنة‏.‏

والإتيان بصيغة لام الجحود تأكيد للنفي، وهو خبر مستعمل في النهي فتأكيده يفيد تأكيد النهي، أي كونه نهياً جازماً يقتضي التحريم‏.‏ وذلك أنه كما كان النفْر للغزو واجباً لأن في تركه إضاعة مصلحة الأمة كذلك كان تركه من طائفة من المسلمين واجباً لأن في تمحض جميع المسلمين للغزو إضاعة مصلحة للأمة أيضاً، فأفاد مجموع الكلامين أن النفْر للغزو واجب على الكفاية أي على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي منه، وأن تركه متعين على طائفة كافية منهم لتحصيل المقصد الشرعي مما أمروا بالاشتغال به من العلم في وقت اشتغال الطائفة الأخرى بالغزو‏.‏ وهذا تقييد للإطلاق الذي في فعل ‏(‏انفروا‏)‏، أو تخصيص للعموم الذي في ضمير ‏(‏انفروا‏)‏‏.‏

ولذلك كانت هذه الآية أصلاً في وجوب طلب العلم على طائفة عظيمة من المسلمين وجوباً على الكفاية، أي على المقدار الكافي لتحصيل المقصد من ذلك الإيجاب‏.‏ وأشعر نفي وجوب النفْر على جميع المسلمين وإثباتُ إيجابه على طائفة من كل فرقة منهم بأن الذين يجب عليهم النفر ليسوا بأوفر عدداً من الذين يبقون للتفقه والإنذار، وأن ليست إحدى الحالتين بأوْلى من الأخرى على الإطلاق فيعلم أن ذلك منوط بمقدار الحاجة الداعية للنفر، وأن البقية باقية على الأصل، فعلم منه أن النفير إلى الجهاد يكون بمقدار ما يقتضيه حال العدو المغزُو، وأن الذين يبقون للتفقه يبقون بأكثر ما يستطاع، وأن ذلك سواء‏.‏ ولا ينبغي الاعتماد على ما يخالف هذا التفسير من الأقوال في معنى الآية وموقعها من الآي السالفة‏.‏

ولولا‏:‏ حرف تحْضيض‏.‏

والفرقة‏:‏ الجماعة من الناس الذين تفرقوا عن غيرهم في المواطن؛ فالقبيلة فرقة، وأهل البلاد الواحدة فرقة‏.‏

والطائفة‏:‏ الجماعة، ولا تتقيد بعدد‏.‏ وتقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏فلتقم طائفة منهم معك‏}‏ في سورة النساء ‏(‏102‏)‏‏.‏

وتنكير ‏{‏طائفة‏}‏ مؤذن بأن النفر للتفقه في الدين وما يترتب عليه من الإنذار واجب على الكفاية‏.‏ وتعيين مقدار الطائفة وضبط حد التفقه موكول إلى ولاة أمور الفرق فتتعين الطائفة بتعيينهم فهم أدرى بمقدار ما تتطلبه المصلحة المنوط بها وجوب الكفاية‏.‏

والتفقه‏:‏ تكلف الفقاهة، وهي مشتقة من فقه ‏(‏بكسر القاف‏)‏ إذا فهم ما يدق فهمه فهو فاقِهٌ‏.‏ فالفقه أخص من العلم، ولذلك نجد في القرآن استعمال الفقه فيما يخفى علمه كقوله‏:‏ ‏{‏لا تفقهون تسبيحهم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏، ويجيء منه فقه بضم القاف إذا صار الفقه سجيته، فقاهة فهو فقيه‏.‏

ولما كان مصير الفقه سجية لا يحصل إلا بمزاولة ما يبلغ إلى ذلك كانت صيغة التفعل المؤذنة بالتكلف متعينة لأن يكون المراد بها تكلف حصول الفقه، أي الفهم في الدين‏.‏ وفي هذا إيماء إلى أن فهم الدين أمرٌ دقيق المسلك لا يحصل بسهولة، ولذلك جاء في الحديث الصحيح «مَن يرد الله به خيراً يفَقِّهْه في الدِين»، ولذلك جزم العلماء بأن الفقه أفضل العلوم‏.‏

وقد ضبط العلماء حقيقة الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية بالاجتهاد‏.‏

والإنذار‏:‏ الإخبار بما يتوقع منه شر‏.‏ والمراد هنا الإنذار من المهلكات في الآخرة‏.‏ ومنه النذير‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏119‏)‏، فالإنذار هو الموعظة، وإنما اقتصر عليه لأنه أهم، لأن التخلية مقدمة على التحْلية، ولأنه ما من إرشاد إلى الخير إلا وهو يشتمل على إنذار من ضده‏.‏ ويدخل في معنى الإنذار تعليم الناس ما يميزون به بين الحق والباطل وبين الصواب والخطإ وذلك بأداء العالم بث علوم الدين للمتعلمين‏.‏

وحذف مفعول يحذرون‏}‏ للتعميم، أي يحذرون ما يُحذر، وهو فعل المحرمات وترك الواجبات‏.‏ واقتصر على الحذر دون العمل للإنذار لأن مقتضى الإنذار التحذير، وقد علمت أنه يفيد الأمرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

كان جميع بلاد العرب خلَص للإسلام قبل حجة الوداع، فكانت تخوم بلاد الإسلام مجاورة لبلاد الشام مقرّ نصارى العرب، وكانوا تحت حكم الروم، فكانت غزوة تبوك أول غزوة للإسلام تجاوزت بلاد العرب إلى مشارف الشام ولم يكن فيها قتال ولكن وُضعت الجزية على أيْلَةَ وبُصرى، وكانت تلك الغزوة إرهاباً للنصارى، ونزلت سورة براءة عقبها فكانت هذه الآية كالوصية بالاستمرار على غزو بلاد الكفر المجاورة لبلاد الإسلام بحيث كلَّما استقر بلد للإسلام وكان تُجاوره بلاد كفر كان حقاً على المسلمين غزو البلاد المجاورة‏.‏ ولذلك ابتدأ الخلفاء بفتح الشام ثم العراق ثم فارس ثم انثنوا إلى مصر ثم إلى إفريقية ثم الأندلس‏.‏

فالجملةُ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً تكملة للأمر بما يتعين على المسلمين في ذيول غزوة تبوك‏.‏

وفي توجيه الخطاب للذين آمنوا دون النبي إيماء إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يغزو بعد ذلك وأن أجله الشريف قد اقترب‏.‏ ولعل في قوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏ إيماء إلى التسلية على فقد نبيهم عليه الصلاة والسلام وأن الله معهم كقوله في الآية الأخرى ‏{‏وسيجْزي الله الشاكرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏‏.‏

والغلظة بكسر الغين‏:‏ الشدة الحسية والخشونة، وهي مستعارة هنا للمعاملة الضارة، كقوله‏:‏ ‏{‏واغلظ عليهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73‏]‏‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ وذلك يجمع الجرأة والصبر على القتال والعنف في القتل والأسر‏.‏ اه‏.‏

قلت‏:‏ والمقصد من ذلك إلقاءُ الرعب في قلوب الأعداء حتى يخشوا عاقبة التصدي لقتال المسلمين‏.‏

ومعنى أمر المسلمين بحصول ما يجده الكافرون من غلظة المؤمنين عليهم هو أمر المؤمنين بأن يكونوا أشداء في قتالهم‏.‏ وهذه مبالغة في الأمر بالشدة لأنه أمر لهم بأن يجد الكفار فيهم الشدة‏.‏ وذلك الوجدان لا يتحقق إلا إذا كانت الغلظة بحيث تظهر وتَنال العدو فيحِس بها، كقوله تعالى لموسى‏:‏ ‏{‏فلا يَصدَّنَّك عنها من لا يؤمن بها‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وإنما وقعت هذه المبالغة لِما عليه العدو من القوة، فإن المقصود من الكفار هنا هم نصارى العرب وأنصارهم الروم، وهم أصحاب عَدد وعُدد فلا يجدون الشدة من المؤمنين إلا إذا كانت شدة عظيمة‏.‏

ومن وراء صريح هذا الكلام تعريض بالتهديد للمنافقين، إذ قد ظُهر على كفرهم وهم أشد قرباً من المؤمنين في المدينة‏.‏ وفي هذا السياق جاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها النبيءُ جاهد الكفار والمنافقين واغلُظ عليهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏ تأييد وتشجيع ووعد بالنصر إن اتقوا بامتثال الأمر بالجهاد‏.‏

وافتتحت الجملة ب ‏{‏اعلموا‏}‏ للاهتمام بما يراد العلم به كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏41‏)‏‏.‏ والمعية هنا معية النصر والتأييد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وهذا تأييد لهم إذ قد علموا قوة الروم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 125‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏124‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطَّول منهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 86‏]‏ وهذا عود إلى بيان أحوال المنافقين وما بينهما اعتراضات‏.‏

وهذه الآية زيدت فيها ‏(‏ما‏)‏ عَقب ‏(‏إذا‏)‏ وزيادتها للتأكيد، أي لتأكيد معنى ‏(‏إذَا‏)‏ وهو الشرط، لأن هذا الخبر لغرابته كان خليقاً بالتأكيد، ولأن المنافقين ينكرون صدوره منهم بخلاف الآية السابقة لأن مضمونها حكاية استيذانهم وهم لا ينكرونه‏.‏

ولم يذكر في هذه الآية إجمال ما اشتملت عليه السور التي أنزلت كما ذكر في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 86‏]‏‏.‏ ووجه ذلك أن سور القرآن كلها لا تخلو عن دعاء إلى الإيمان والصالحات والإعجاز ببلاغتها‏.‏ فالمراد إذا أنزلت سورة مَّا من القرآن‏.‏ وضمير ‏{‏فمنهم‏}‏ عائد إلى المنافقين للعلم بالمعاد من المقام ومن أواخر الكلام في قوله‏:‏ ‏{‏وأما الذين في قلوبهم مرض‏}‏، ولما في قوله قبل هذا‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين يلونكم من الكفار‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 123‏]‏ من التعريض بالمنافقين كما تقدم، فالمنافقون خاطرون بذهن السامع فيكون الإتيان بضمير يعود عليهم تقوية لذلك التعريض‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏أيكم زادته هذه إيماناً‏}‏ خطاب بعضهم لبعض على سبيل التهكم بالمؤمنين وبالقرآن، لأن بعض آيات القرآن مصرحة بأن القرآن يزيد المؤمنين إيماناً قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏‏.‏ ولعل المسلمين كانوا إذا سمعوا القرآن قالوا‏:‏ قد ازددنا إيماناً، كقول معاذ بن جبل للأسود بن هلال‏:‏ اجلس بنا نُؤمن ساعة، يعني بمذاكرة القرآن وأمور الدين ‏(‏رواه البخاري في كتاب الإيمان‏)‏‏.‏

ولما كان الاستفهام في قولهم‏:‏ ‏{‏أيّكم‏}‏ للاستهزاء كان متضمناً معنى إنكار أن يكون نزول سور القرآن يزيد سامعيها إيماناً توهماً منهم بأن ما لا يزيدهم إيماناً لا يزيد غيرهم إيماناً، يقيسون على أحوال قلوبهم‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا‏}‏ للتفريع على حكاية استفهامهم بحملهِ على ظاهر حاله وصرفه عن مقصدهم منه‏.‏ وتلك طريقة الأسلوب الحكيم، وهو‏:‏ تلقي المخاطب بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده لنكتة، وهي هنا إبطال ما قصدوه من نفي أن تكون السورة تزيد أحداً إيماناً قياساً على أحوال قلوبهم فأجيب استفهامهم بهذا التفصيل المتفرع عليه، فأثبت أن للسورة زيادة في إيمان بعض الناس وأكثرَ من الزيادة، وهو حصول البشر لهم‏.‏

وارتُقِيَ في الجواب عن مقصدهم من الإنكار بأن السورة ليست منفياً عنها زيادة في إيمان بعض الناس فقط بل الأمر أشد إذ هي زائدة في كفرهم، فالقِسم الأول المؤمنون زادتهم إيماناً وأكسبتهم بشرى فحصل من السورة لهم نفعان عظيمان، والقسم الثاني الذين في قلوبهم مرض زادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون‏.‏

فالوجه أن تكون جملة ‏{‏وهم يستبشرون‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏فزادتهم إيماناً‏}‏ وأن تكون جملة‏:‏ ‏{‏وماتوا وهم كافرون‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏فزادتهم رجساً‏}‏ لأن مضمون كلتا الجملتين مما أثرته السورة‏.‏ أما جملة‏:‏ ‏{‏وهم كافرون‏}‏ فهي حال من ضمير ‏{‏ماتوا‏}‏‏.‏

وقوبل قوله‏:‏ ‏{‏وهم يستبشرون‏}‏ في جانب المؤمنين بقوله‏:‏ ‏{‏وماتوا وهم كافرون‏}‏ في جانب المنافقين تحسيناً بالازدواج، بحيث كانت للسورة فائدتان للمؤمنين ومصيبتان على المنافقين، فجُعل موتهم على الكفر المتسبب على زيادة السورة في كفرهم بمنزلة مصيبة أخرى غير الأولى وإن كانت في الحقيقة زيادة في المصيبة الأولى‏.‏

هذا وجه نظم الآية على هذا النسج من البلاغة والبديع، وقد أغفل فيما رأيت من التفاسير، فمنها ما سكت عن بيانه‏.‏ ومنها ما نُشرت فيه معاني المفردات وترك جانب نظم الكلام‏.‏

والاستبشار‏:‏ أثر البشرى في النفس، فالسين والتاء للتأكيد مثل استعجم، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يستبشرون بنعمة من الله‏}‏ في آل عمران ‏(‏171‏)‏، وتقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏فاستبشروا ببيعكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏‏.‏

والمراد بزيادة الإيمان وبزيادة الرجس الرسوخ والتمكن من النفس‏.‏

والرجس‏:‏ هنا الكفر‏.‏ وأصله الشيء الخبيث‏.‏ كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رجس من عمل الشيطان‏}‏ في سورة العقود ‏(‏90‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏125‏)‏‏.‏

والمرض في القلوب تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في قلوبهم مرض‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏10‏)‏‏.‏

وتعدية زادتهم‏}‏ ب ‏{‏إلى‏)‏‏}‏ لأن زاد قد ضمن معنى الضم‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا‏}‏ الخ مثل معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏فزادتهم رجساً إلى رجسهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 125‏]‏ إلى آخره فهي من تمام التفصيل‏.‏

وقدّمت همزة الاستفهام على حرف العطف على طريقة تصدير أدوات الاستفهام‏.‏ والتصدير للتنبيه على أن الجملة في غرض الاستفهام‏.‏

والاستفهام هنا إنكار وتعجيب لعدم رؤيتهم فتنتهم فلا تعقبها توبتهم ولا تذكّرهم أمر ربهم‏.‏ والغرض من هذا الإنكار هو الاستدلال على ما تقدم من ازدياد كفر المنافقين وتمكنه كلما نزلت سورة من القرآن بإيراد دليل واضح يُنَزَّلُ منزلة المحسوس المرئيّ حتى يَتوجه الإنكار على من لا يراه‏.‏

والفتنة‏:‏ اختلال نظام الحالة المعتادة للناس واضطرابُ أمرهم، مثل الأمراض المنتشرة، والتقاتل، واستمرار الخوف‏.‏ وقد تقدم ذكرها عند قوله‏:‏ ‏{‏والفتنة أشد من القتل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏193‏)‏‏.‏

فمعنى أنهم يفتنون‏}‏ أن الله يسلط عليهم المصائب والمضار تنال جماعتهم مما لا يُعتاد تكرر أمثاله في حياة الأمم بحيث يدل تكرر ذلك على أنه مراد منه إيقاظ اللّهِ الناس إلى سوء سيرتهم في جانب الله تعالى، بعدم اهتدائهم إلى الإقلاع عما هم فيه من العناد للنبيء صلى الله عليه وسلم فإنهم لو رزقوا التوفيق لأفاقوا من غفلتهم، فعلِموا أن ما يحل بهم كل عام ما طرأ عليهم إلا من وقت تلبسهم بالنفاق‏.‏

ولا شك أن الفتنة التي أشارت إليها الآية كانت خاصة بأهل النفاق من أمراض تحل بهم، أو متالف تصيب أموالهم، أو جوائح تصيب ثمارهم، أو نقص من أنفسهم ومواليدهم؛ فإذا حصل شيئان من ذلك في السنة كانت الفتنة مرتين‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أولا يَرون‏}‏ بالمثناة التحتية‏.‏ وقرأ حمزة ويعقوب ‏{‏أولا ترون‏}‏ بالمثناة الفوقية على أن الخطاب للمسلمين، فيكون من تنزيل الرائي منزلة غيره حتى ينكر عليه عدم رؤيته مَا لا يخفى‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ للترتيب الرتبي لأن المعطوف بها هو زائد في رتبة التعجيب من شأنه على المعطوف عليه، فإن حصول الفتنة في ذاته عجيب، وعدم اهتدائهم للتدارك بالتوبة والتذكر أعجب‏.‏ ولو كانت ‏(‏ثم‏)‏ للتراخي الحقيقي لكان محل التعجيب من حالهم هو تأخر توبتهم وتذكرهم‏.‏

وأتي بجملة ‏{‏ولا هم يذكرون‏}‏ مبتدأة باسم أسند إليه فعل ولم يقل‏:‏ ولا يذكرون، قصداً لإفادة التقوي، أي انتفاء تذكرهم محقق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124‏]‏ والظاهر أن المقصود عطف جملة‏:‏ ‏{‏نظر بعضهم إلى بعض‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124‏]‏‏.‏ وإنما أعيدت جملة الشرط لبعد ما بين الجملة المعطوفة وجملة الجزاء، أو للإشارة إلى اختلاف الوقت بالنسبة للنزول الذي يقولون عنده ‏{‏أيكم زادته هذه إيماناً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124‏]‏ وبالنسبة للسورة التي عند نزولها ينظر بعضهم إلى بعض، أو لاختلاف السورتين بأن المراد هنا سورة فيها شيء خاص بهم‏.‏

وموجب زيادة ‏(‏ما‏)‏ بعد ‏(‏إذا‏)‏ في الآيتين متحد لاتحاد مقتضيه‏.‏

ونظَرُ بعضهم إلى بعض عند نزول السورة يدل على أنهم كانوا حينئذٍ في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم لأن نظر بعضهم إلى بعض تعلقت به أداة الظرفية، وهي ‏(‏إذا‏)‏‏.‏ فتعين أن يكون نظرُ بعضهم إلى بعض حاصلاً وقت نزول السورة‏.‏ ويدل لذلك أيضاً قوله‏:‏ ‏{‏ثُم انصرفوا‏}‏ أي عن ذلك المجلس‏.‏ ويدل أيضاً على أن السورة مشتملة على كشف أسرارهم وفضح مكرهم لأن نظر بعضهم إلى بعض هو نظر تعجب واستفهام‏.‏ وقد قال تعالى في الآية السابقة‏:‏ ‏{‏يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 64‏]‏‏.‏ ويدل أيضاً على أنهم كاتمون تعجُّبَهم من ظهور أحوالهم خشية الاعتراف بما نسب إليهم ولذلك اجتزوا بالتناظر دون الكلام‏.‏ فالنظر هنا نظر دال على ما في ضمير الناظر من التعجب والاستفهام‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏هل يراكم من أحد‏}‏ بيان لجملة ‏{‏نظر بعضهم إلى بعض‏}‏ لأن النظر تفاهموا به فيما هو سِرّ بينهم؛ فلما كان النظر نظر تفاهم صح بيان جملته بما يدل على الاستفهام التعجيبي، ففي هذا النظم إيجازُ حذف بديعٌ دلت عليه القرينة‏.‏ والتقدير‏:‏ وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحةُ أمرهم نظر بعضهم إلى بعض بخائنة الأعين مستفهمين متعجبين من اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على أسرارهم، أي هل يراكم من أحد إذا خلوتم ودبرتم أموركم، لأنهم بكفرهم لا يعتقدون أن الله أطْلع نبيه عليه الصلاة والسلام على دخيلة أمرهم‏.‏

وزيادة جملة‏:‏ ‏{‏ثم انصرفوا‏}‏ لإفادة أنهم لم يكتسبوا من نزول السورة التي أطلعت المؤمنين على أسرارهم عبرةً ولا قُرباً من الإيمان، بل كان قصارى أمرهم التعجب والشك في أن يكون قد اطلع عليهم من يبوح بأسرارهم ثم انصرفوا كأن لم تكن عبرة‏.‏ وهذا من جملة الفتن التي تحل بهم ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏صرف الله قلوبهم‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن ما أفاده قوله‏:‏ ‏{‏ثم انصرفوا‏}‏ من عدم انتفاعهم بما في تلك السورة من الإخبار بالمغيبات الدال على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم يثير سؤال من يسأل عن سَبب عدم انتفاعهم بذلك واهتدائهم، فيجاب بأن الله صرف قلوبهم عن الفهم بأمر تكويني فحُرموا الانتفاع بأبلغ واعظ‏.‏

وكان ذلك عقاباً لهم بسبب أنهم ‏{‏قوم لا يفقهون‏}‏، أي لا يفهمون الدلائل، بمعنى لا يتطلبون الهدى بالتدبر فيفهموا‏.‏

وجعل جماعة من المفسرين قولَه‏:‏ ‏{‏صرف الله قلوبهم‏}‏ دعاء عليهم، ولا داعي إليه لأن دعاء الله على مخلوقاته تكوين كما تقدم، ولأنه يأباه تسْبيبه بقوله‏:‏ ‏{‏بأنهم قوم لا يفقهون‏}‏‏.‏

وقد أعرض المفسرون عن تفسير هذه الآية تفسيراً يبين استفادة معانيها من نظم الكلام فأتوا بكلام يخاله الناظر إكراهاً لها على المعنى المراد وتقديرات لا ينثلج لها الفؤاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 129‏]‏

‏{‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏128‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏129‏)‏‏}‏

كانت هذه السورة سورة شدة وغلظة على المشركين وأهل الكتاب والمنافقين من أهل المدينة ومن الأعراب، وأمْراً للمؤمنين بالجهاد، وإنحاء على المقصرين في شأنه‏.‏ وتخلل ذلك تنويه بالمتصفين بضد ذلك من المؤمنين الذين هاجروا والذين نصروا واتبعوا الرسول في ساعة العسْرة‏.‏

فجاءت خاتمة هذه السورة آيتين بتذكيرهم بالمنة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم والتنويه بصفاته الجامعة للكمال‏.‏ ومن أخصها حرصهُ على هداهم، ورغبته في إيمانهم ودخولِهم في جامعة الإسلام ليكون رؤوفاً رحيماً بهم ليعلموا أن ما لقيه المعرضون عن الإسلام من الإغلاظ عليهم بالقول والفعل ما هو إلا استصلاح لحالهم‏.‏ وهذا من مظاهر الرحمة التي جعلها الله تعالى مقارنة لبعثة رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏، بحيث جاء في هاتين الآيتين بما شأنه أن يزيل الحرج من قلوب الفرق التي نزلت فيهم آيات الشدة وعوملوا بالغلظة تعقيباً للشدة بالرفق وللغلظة بالرحمة، وكذلك عادة القرآن‏.‏ فقد انفتح بهاتين الآيتين باب حظيرة الإيمان والتوبة ليدخلها من وفقه الله إليها‏.‏

فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً‏.‏ وفي وقوعها آخر السورة ما يكسبها معنى التذييل والخلاصة‏.‏

فالخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏جاءكم‏}‏ وما تبعه من الخطاب موجه إلى جميع الأمة المدعوة للإسلام‏.‏ والمقصود بالخطاب بادئ ذي بدء هم المعرضون من المشركين والمنافقين من العرب بقرينة قوله عقب الخطاب ‏{‏بالمؤمنين رءوف رحيم‏}‏ وسيجيء أن المقصود العرب‏.‏

وافتتاحها بحرفَيْ التأكيد وهما اللام و‏(‏قد‏)‏ مع كون مضمونها مما لا يتطرق إليه الإنكار لقصد الاهتمام بهذه الجملة لأهمية الغرض الذي سيقت لأجله وهو الذي سنذكره، ولأن فيما تضمنته ما ينكره المنافقون وهو كونه رسولاً من الله، ولأن في هذا التأكيد ما يجعل المخاطبين به منزَّلين منزلة المنكرين لمجيئه من حيث إنهم لم ينفعوا أنفسهم بهذا المجيء، ولأن في هذا التأكيد تسجيلاً عليهم مراداً به الإيماء إلى اقتراب الرحيل، لأنه لما أعيد الإخبار بمجيئه وهو حاصل منذ أعوام طويلة كان ذلك كناية عن اقتراب انتهائه، وهو تسجيل منه على المؤمنين، وإيداع للمنافقين ومن بقي من المشركين‏.‏ على أن آيات أخرى خوطب بها أهل الكتاب ونحوهم فأكدت بأقل من هذا التأكيد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 15‏]‏ وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 174‏]‏ فما زيدت الجملة في هذه السورة مؤكدة إلا لغرض أهم من إزالة الإنكار‏.‏

والمجيء‏:‏ مستعمل مجازاً في الخطاب بالدعوة إلى الدين‏.‏ شبه توجهه إليهم بالخطاب الذي لم يكونوا يترقبونه بمجيء الوافد إلى الناس من مكان آخر‏.‏

وهو استعمال شائع في القرآن‏.‏

والأنفس‏:‏ جمع نفْس، وهي الذات‏.‏ ويضاف النفس إلى الضمير فيدل على قبيلة معاد الضمير، أي هو معدود من ذوي نسبهم وليس عداده فيهم بحلف أو ولاء أو إلصاق‏.‏ يقال‏:‏ هو قريشي من أنفسهم، ويقال‏:‏ القريشي مولاهم أو حليفهم، فمعنى ‏{‏من أنفسكم‏}‏ من صميم نسبكم، فتعين أن الخطاب للعرب لأن النازل بينهم القرآن يومئذٍ لا يَعدون العربَ ومن حالفهم وتولاهم مثلَ سلمانَ الفارسي وبلاللٍ الحبشي، وفيه امتنان على العرب وتنبيه على فضيلتهم، وفيه أيضاً تعريض بتحريضهم على اتباعه وترك مناواته وأن الأجدر بهم الافتخار به والالتفاف حوله كما قال تعالى في ذكر القرآن ‏{‏وإنه لذكر لك ولقومك‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏ أي يبقى منه لكم ذكر حسن‏.‏

والعزيز‏:‏ الغالب‏.‏ والعزة‏:‏ الغلبة‏.‏ يقال عزّه إذا غلبه‏.‏ ومنه ‏{‏وعزني في الخطاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 23‏]‏، فإذا عُدي بعلى دل على معنى الثقل والشدة على النفس‏.‏ قال بشر بن عوانة في ذكر قتله الأسد ومصارعته إياه‏:‏

فقلتُ له يعزُّ عليَّ أني *** قتلت مناسبي جلداً وقهراً

و ‏{‏ما‏}‏ مصدرية‏.‏ و‏{‏عنتم‏}‏‏:‏ تعبتم‏.‏ والعنت‏:‏ التعب، أي شاق عليه حزنكم وشقاؤكم‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏لعلّك باخِع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 3‏]‏ وذكرُ هذا في صفة الرسول عليه السلام يفيد أن هذا خُلق له فيكون أثر ظهوره الرفق بالأمة والحذر مما يلقي بهم إلى العذاب في الدنيا والآخرة‏.‏ ومن آثار ذلك شفاعته للناس كلهم في الموقف لتعجيل الحساب‏.‏ ثم إن ذلك يومئ إلى أن شرعه جاء مناسباً لخُلقه فانتفى عنه الحرج والعسر قال تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏‏.‏

والعدول عن الإتيان بلفظ العنت الذي هو المصدر الصريح إلى الإتيان بالفعل مع ‏(‏ما‏)‏ المصدرية السابكة للمصدر نكتة‏.‏ وهي إفادة أنه قد عز عليه عنتهم الحاصل في الزمن الذي مضى، وذلك بما لقوه من قتْل قومهم، ومن الأسر في الغزوات، ومن قوارع الوعيد والتهديد في القرآن‏.‏ فلو أتي بالمصدر لم يكن مشيراً إلى عنتتٍ معيَّن ولا إلى عنت وقع لأن المصدر لا زمَان له بل كان محتملاً أن يعز عليه بأن يجنبهم إياه، ولكن مجيء المصدر منسبكاً من الفعل الماضي يجعله مصدراً مقيداً بالحصول في الماضي، ألا ترى أنك تقدره هكذا‏:‏ عزيز عليه عنتكم الحاصل في ما مضى لتكون هذه الآية تنبيهاً على أن ما لقوه من الشدة إنما هو لاستصلاح حالهم لعلهم يخفضون بعدها من غلوائهم ويرعوون عن غيهم ويشعرون بصلاح أمرهم‏.‏

والحرص‏:‏ شدة الرغبة في الشيء والجشعُ إليه‏.‏ ولما تعدى إلى ضمير المخاطبين الدال على الذوات وليست الذوات هي متعلق الحرص هنا تعين تقدير مضاف فُهم من مقام التشريع، فيقدر‏:‏ على إيمانكم أو هَدْيكم‏.‏

والرؤوف‏:‏ الشديد الرأفة‏.‏ والرحيم‏:‏ الشديد الرحمة، لأنهما صيغتا مبالغة، وهما يتنازعان المجرور المتعلق بهما وهو ‏{‏بالمؤمنين‏}‏‏.‏

والرأفة‏:‏ رقة تنشأ عند حدوث ضر بالمرءُوف به‏.‏ يقال‏:‏ رؤوف رحيم‏.‏ والرحمة‏:‏ رقة تقتضي الإحسان للمرحوم، بينهما عموم وخصوص مطلق، ولذلك جمع بينهما هنا ولوازمُهما مختلفة‏.‏ وتقدمت الرأفة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏ والرحمة في سورة الفاتحة ‏(‏3‏)‏‏.‏

وتقديم المتعلِّق على عامليه المتنازِعَيْنه في قوله‏:‏ بالمؤمنين رءوف رحيم‏}‏ للاهتمام بالمؤمنين في توجه صفتيْ رأفته ورحمته بهم‏.‏ وأما رحمته العامة الثابتة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏ فهي رحمة مشوبة بشدة على غير المؤمنين فهو بالنسبة لغير المؤمنين رائف وراحم، ولا يقال‏:‏ بهم رؤوف رحيم‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ للتفريع على إرسال النبي صلى الله عليه وسلم صاحب هذه الصفات إليهم فإن صفاته المذكورة تقتضي من كل ذي عقل سليم من العرب الإيمان به واتباعه لأنه من أنفسهم ومحب لخيرهم رؤوف رحيم بمن يتبعه منهم، فتفرع عليه أنهم محقوقون بالإيمان به فإن آمنوا فذاك وإن لم يؤمنوا فإن الله حسيبه وكافيه‏.‏ وقد دل الشرط على مقابله لأن ‏{‏فإن تولوا‏}‏ يدل على تقدير ضده وهو إن أذعنوا بالإيمان‏.‏

وبعد التفريع التفت الكلام من خطاب العرب إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بما كان مقتضى الظاهر أن يخاطَبُوا هُم به اعتماداً على قرينة حرف التفريع فقيل له‏:‏ ‏{‏فإن تولوا فقل حسبي الله‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ فإن توليتم عنه فحسبه الله وقل حسبي الله‏.‏ فجيء بهذا النظم البديع الإيجاز مع ما فيه من براعة الإيماء إلى عدم تأهلهم لخطاب الله على تقدير حالة توليهم‏.‏

والتولي‏:‏ الإعراض والإدبار‏:‏ وهو مستعار هنا للمكابرة والعناد‏.‏

والحسْب‏:‏ الكافي، أي كافيك شر إعراضهم لأنهم إن أعرضوا بعد هذا فقد أعرضوا عن حسد وحنق‏.‏ وتلك حالة مظنة السعي في الكيد والأذى‏.‏

ومعنى الأمر بأن يقول‏:‏ ‏{‏حسبي الله‏}‏ أن يقول ذلك قولاً ناشئاً عن عقد القلب عليه، أي فاعلم أن حسبك الله وقُل حسبي الله، لأن القول يؤكد المعلوم ويرسخه في نفس العالم به، ولأن في هذا القول إبلاغاً للمعرضين عنه بأن الله كافيه إياهم‏.‏

والتوكل‏:‏ التفويض‏.‏ وهو مبالغة في وَكَل‏.‏

وهذه الآية تفيد التنويه بهذه الكلمة المباركة لأنه أمر بأن يقول هذه الكلمة بعيْنِها ولم يؤمَر بمجرد التوكل كما أمر في قوله‏:‏ ‏{‏فتوكل على الله إنك على الحق المبين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 79‏]‏‏.‏ ولا أخبر بأن الله حسبه مجردَ إخبار كما في قوله‏:‏ ‏{‏فإن حسبك الله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 62‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ مستأنفة للثناء، أو في موضع الحال وهي ثناء بالوحدانية‏.‏

وعطفت عليها جملة‏:‏ ‏{‏وهو رب العرش العظيم‏}‏ للثناء بعظيم القدرة لأن من كان رباً للعرش العظيم ثبت أنه قدير، لأنه قد اشتهر أن العرش أعظم المخلوقات، ولذلك وصف بالعظيم، فالعظيم في هذه الآية صفة للعرش، فهو مجرور‏.‏

وفي هاتين الآيتين إشعار بالإيداع والإعذارِ للناس، وتنبيه إلى المبادرة باغتنام وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ليتشرفوا بالإيمان به وهم يشاهدونه ويقتبسون من أنوار هديه، لأن الاهتداء بمشاهدته والتلقي منه أرجى لحصول كمال الإيمان والانتفاع بقليل من الزمان لتحصيل وافر الخير الذي لا يحصل مثله في أضعاف ذلك الزمان‏.‏

وفيهما أيضاً إيماء إلى اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم لأن التذكير بقوله‏:‏ ‏{‏لقد جاءكم‏}‏ يؤذن بأن هذا المجيء الذي مضى عليه زمن طويل يوشك أن ينقضي، لأن لكل وارد قفولاً، ولكل طالع أفولاً‏.‏ وقد روي عن أبَيْ بن كعب وقتادة أن هاتين الآيتين هما أحدث القرآن عهداً بالله عز وجل، أي آخرُ ما نزل من القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ إن آخر القرآن نزولاً آية الكلالة خاتمةُ سورة النساء‏.‏ وقيل آخره نزولاً قوله‏:‏ ‏{‏واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم تُوفَّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون‏}‏ من سورة البقرة ‏(‏281‏)‏‏.‏

في صحيح البخاري‏}‏ من طريق شعيب عن الزهري عن ابن السباق عن زيد بن ثابت في حديث جمع القرآن في زمن أبي بكر رضي الله عنه قال زيد‏:‏ «حتى وجدتُ من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره ‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم‏}‏ إلى آخرهما‏.‏ ومن طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري مع أبي خزيمة الأنصاري‏.‏ ومعنى ذلك أنه بحث عن هاتين الآيتين في ما هو مكتوب من القرآن فلم يجدهما وهو يعلم أن في آخر سورة التوبة آيتين خاتمتين أو هو يحفظهما ‏(‏فإن زيداً اعتنى في جمع القرآن بحفظه وبتتبع ما هو مكتوب بإملاء النبي صلى الله عليه وسلم وبقراءة حفاظ القرآن غيره‏)‏ فوجد خزيمة أو أبا خزيمة يحفظهما‏.‏ فلما أمْلاهما خزيمة أو أبو خزيمة عليه تذكّر زيد لفظهما وتذكّرهما مَن سمعهما من الصحابة حين قرأوهما، كيف وقد قال أبَيّ بن كعب‏:‏ إنهما آخر ما أنزل، فلفظهما ثابت بالإجماع، وتواترهما حاصل إذ لم يشك فيهما أحد وليس إثباتهما قاصراً على إخبار خزيمة أو أبي خزيمة‏.‏